ما دواعي هذا التخلي العربي عن فلسطين
في وقت تسرع حكومة الاحتلال الإسرائيلي خطواتها العملية وخطابها تجاه الوجود الفلسطيني في الضفة الغربية وغزة نشهد تراجع النظم العربية الواضح في التزامها نحو الفلسطينيين وما تبقى من فلسطين ولم ينشأ هذا الموقف العربي الرسمي الخطير من فراغ وبعضه عائد إلى غياب القناعة بإمكان فرض الحقوق الثابتة في فلسطين إذ لا أحد من قادة العرب يزعم مجرد زعم أن تحرير فلسطين من ضمن أهدافه أو حتى إن استخدام القوة اللازمة لإجبار دولة الاحتلال على الوفاء بما يتفق عليه العالم من دولة فلسطينية في حدود 4 حزيران 1967 أمر وارد ليس هذا فحسب بل لا أحد يتخذ الخطوات المفيدة لوقف الإبادة الجماعية المتواصلة منذ ما يقارب السنة في قطاع غزة أو وقف التمدد الاحتلالي الحاد في الضفة الغربية والقدس ما أسباب هذا التسليم العربي الرسمي هل هو إدراك أو قبول أن الوقت قد حان لطي هذه القضية التي لم تنطفئ جذوة عدالتها لدى شعوب العالم ولم يظهر من أصحابها في فلسطين ما يؤشر إلى قبول الاستسلام حتى الإدارة الأميركية الحالية من الديمقراطيين وعلى لسان المرشحة للرئاسة كامالا هاريس لا تزال تستشعر الحاجة إلى موقف يعترف بأن الطرف الفلسطيني حي وفاعل من خلال استبقاء حل الدولتين وحق الفلسطينيين في تقرير مصيرهم صحيح أن ثمة ما يزاحم هذه الحقوق وهو ما نجحت إسرائيل في فرضه على الواقع الفلسطيني من مستوطنات ووجود متنام بالقوة على الأراضي الفلسطينية المحتلة ثم أصبحت تعامل هذا الأمر الواقع وتبرزه أمام العالم سببا شرعيا للبناء عليه حتى لم يعد الطرف الأهم وهو الولايات المتحدة سواء بإدارة الرئيس السابق دونالد ترامب الجمهورية أو بإدارة جو بايدن الديمقراطية يعارض فعليا هذا المعطى لكن الموقف العربي الرسمي يتراجع لأسباب غير هذا السبب مع أنه سبب مهم ذلك أننا لم نعهد ولا قابلية راهنة لأن نتوقع مناهضة عربية حقيقية للموقف الأميركي واستعدادا لتحمل كلف هذه المناهضة ولو كان الثمن ضياع فلسطين التدريجي وصولا إلى الحسم ليس الخطر بعيدا عن الأردن مع تزايد مخاطر التهجير على فلسطينيي الضفة الغربية وتسارع الانتهاكات في المسجد الأقصى أما الأسباب الأخرى فعائدة إلى ترد إضافي أصاب الحالة العربية الرسمية تستبطن تحللها من أي شأن عربي عام لصالح الانكفاء القطري الخاص وهذه قناعة تكاد تكون عامة عند المحكات والتحديات المصيرية بل ضاقت الدائرة من إيلاء الشأن الوطني الخاص الأهمية إلى إيلاء بقاء النظام الحاكم تعزز ذلك بتآكل الدعم الشعبي للجهات الحاكمة حين تمثل بقاء هذه الأنظمة نقيضا لإرادة الشعوب التي حاولت تمثيل نفسها ولم يكن الربيع العربي إلا دليلا صارخا على تلك التطلعات حتى الدول التي لم تستكمل فيها شروط الثورات أو الاحتجاجات الواسعة شهدت احتجاجات سابقة أو متزامنة وما اصطفاف دول في الخليج العربي اصطفافا محموما ضد قوى التغيير وقيادتها المعلنة فيما عرف بالثورات المضادة وملاحقتها في بلادها كل من لم يثبت تنصله من تلك القوى التغييرية إلا إشارة إلى هذه التطلعات الكامنة ومن أمثلة ذلك ما يجري في السودان وفي هذا النهج ما يرجح الإقرار بالخطر وبقابلية وصول مطالبات التغيير إلى شعوب تلك الدول فهذا التخلي العربي الرسمي عن فلسطين وطنا وقضية وشعبا يتعرض للإبادة والخنق ليس فقط استجابة لضغوط قوى خارجية ولا هو فقط بسبب قناعات انهزامية ولا هو تعبير عن سخط على ممثلي الفلسطينيين واستياء من أدائهم سواء أكان هؤلاء الممثلون من حركة المقاومة الإسلامية حماس وفصائل المقاومة أو من الطرف المعترف به دوليا وعربيا وهو السلطة الفلسطينية لجهة فسادها المالي والإداري أو لمنظمة التحرير ومواقفها التي لم تبد واقعية بما يكفي في نظر تلك النظم العربية مع أن إسرائيل وفق هذا المنظور لا حظ لها من أي واقعية تساعد على الحلول الوسط نعم فهذا التخلي العربي عائد في جانب منه إلى الانشغال بما هو أهم في نظر تلك الدول والحكومات وهو صب الجهود على ضبط الحالة الداخلية ومواجهة الإخفاق المتراكم والمزمن ليس في المجالات الاقتصادية فقط وهي الأكثر حيوية وتأثيرا بل أيضا في مجمل أسئلة الشرعية بعد أن قفزت الشعوب العربية في وعيها بوجودها وبحق مشاركتها وتمثيلها ومما يدل على هذا التوجس المضطرب الذي يطغى على تصورات نظم عربية يستأثر بها تثبيت وجودها يتمثل ذلك بالانهمام الغالب في سحب عناصر الإرادة الشعبية ومنع تشكلها من ذلك ما يحصل في مصر من إفقار واسع النطاق يتوازى مع تهاون غير مفهوم إزاء قضايا الأمن القومي كما يظهره تعامل النظام مع سد النهضة من دون المستوى اللازم إزاء تهديد مياه المصريين وكذلك التعامل المتراخي مع إصرار حكومة نتنياهو على البقاء في محور صلاح الدين فيلادلفي في خرق لاتفاقية السلام مع مصر بما يعني فتح الباب نحو انفراد إسرائيل في تقرير ما تراه مناسبا لها في مستقبل الأيام بغض النظر عن تداعياته على مصر يصرف فتح أبواب الترفيه البالغ حدود الصدمة والإسفاف على مصاريعها النظر إلى الاهتمام باستحقاقات تتعلق بحق إبداء الرأي والاعتراض وليس الخطر بعيدا عن الأردن مع تزايد مخاطر التهجير على فلسطينيي الضفة الغربية وتسارع الانتهاكات في المسجد الأقصى ويتعزز هذا الخوف المشروع لدى تذكر التيار الفكري الذي يتحدر منه نتنياهو وهو ما يعرف بالتيار التصحيحي الذي تأسس عام 1925 على يد اليهودي الروسي زئيف جابوتنسكي وهو الذي كان يرى أن الدولة اليهودية يجب أن تمتد إلى حدودها التوراتية وهو صاحب المقولة لنهر الأردن ضفتان هذه لنا وتلك أيضا ففكرة تمدد الكيان الصهيوني إلى الضفة الشرقية من نهر الأردن أمر لا يمكن الاطمئنان إلى انتفائه من المخططات والسياسات اليمينية المتطرفة المتنامية التي يتزعمها نتنياهو المعتد بأنه تلميذ مخلص لجابوتنسكي وأنه ملهمه ومرشده الروحي وعلى صعيد آخر يصرف فتح أبواب الترفيه البالغ حدود الصدمة والإسفاف على مصاريعها النظر إلى الاهتمام باستحقاقات تتعلق بحق إبداء الرأي والاعتراض ويخدم هذا النشاط الصارف عن عوالم السياسة التي تصور أنها مضجرة أو ليست من أعمال الشعوب والشباب يخدم حالة الانقطاع الشعوري عن الشأن السياسي العام هذا والمطالبات لا تصل إلى انخراط هذه النظم الحاكمة في المعركة الدائرة في فلسطين ولكن في استخدام أوراق دون ذلك من قطع العلاقات الدبلوماسية أو استخدام ورقة المقاطعة الاقتصادية أو حتى إبداء اهتمام حار وحقيقي في نبرة الخطاب وفي تبني الصراع بوصف مخرجاته مهددا جوهريا للأمن العربي القومي بمجمله وللأسف ما حصل هو ضرب الحكام بشعوبها وعوض أن تعانق الطبقة الحاكمة تطلعات الشعوب العربية غير المنبتة مع تطلعات الفلسطينيين فإنها أضحت أكثر انهماكا في معالجات سلبية تقتصر على تجويف أسباب القوة الشعبية تماشيا مع إدراك متعسف بأن لحظة إنهاء المسألة الفلسطينية قربت أو أن لا جدوى من الاحتشاد لها
أسامة عثمان